-----
رواية الأشرعة الحمراء
الكاتب الروسي ألكساندر غرين (1880ـ1932م) : إنّهم يصفونه بأنّه إنسانٌ حالمٌ كان يكتب رواياتٍ خياليةٍ مشرقة،على أنه عاش في الواقع حياة مليئة بالقسوة والظلم والفقر والسجن، حياة بعيدة كلّ البعد عن تلك التي تنبض بها قصصه ورواياته، فقد أمضى طفولةً مريرةً جعلته يترك المدرسة بعد الصف الرابع الابتدائي وعندما كبر سافر إلى البلدان البعيدة وجرّب شتّى أنواع الأعمال والمهن،ثم إن الأمل الذي شدّه إلى حياة السفر والترحال أدّى به إلى الانخراط في النشاط الثوري ومن ثم إلى السجن . وفي السجن بدأ حياته الأدبية، ويمتاز أدبه بأنه مليء بالحب والصداقة والوفاء .
وقد وافته المنيّة عام 1932م بعد أن ترك نتاجات سامية، فبرز من رواياته: "عالم برّاق" ، "الطريق المسدود" والرواية الرمزية الشهيرة "الأشرعة الحمراء": التي هي تعبير عن صفاء القلوب وأن الأشرعة الحمراء لابدّ أن تخفق ذات صباح في أفقهم .
كان أبطالها:"لونغرين" الأب البائس ـ "أسّول" طفلته البريئة ـ "إيغل" الرحّالة الذي يجمع الأغاني والأساطير والحكايات .
كان لونغرين يعمل بحاراً وهو انطوائي بطبعه وقد ازداد عزلةً وابتعاداً عن الناس بعد وفاة زوجته ماري التي ماتت نتيجة ولادتها العسيرة ، وقد تركت لزوجها طفلة أسمتها أسّول، قامت بتربيتها الجارة الأرملة إلى أن أصبحت قادرة على المشي، ثم بقيت مع أبيها في المنزل منعزلين عن الآخرين تماماً، حتّى أسّول لم تكن تملك أي أصدقاء في الحي وقد فشلت كل محاولاتها للتقرب من أطفال القرية، ولم يكن يواسيها إلا حنان أبيها وعطفه، الذي قد صار عمله صنع ألعاب صغيرة هي قوارب وزوارق وسفن شراعيّة يبيعها في محلات المدينة ليكسب بعض المال .
وحين بلغت أسّول الثامنة من عمرها علّمها والدها الكتابة والقراءة وصار يصطحبها معه إلى المدينة القريبة من قريتهم "كابيرنا" .
وذات مرة أرسلها أبوها إلى المدينة وحدها، وفي أثناء رحلتها جلست لتناول إفطارها، وفيما كانت تأكل أخذت تتفحّص يختاً صنعه والدها، قررت أن تجرّبه في غدير اعترض طريقها ، وبحذر أنزلت الزورق ذا اللون القاني، ثم مضت تجري خلفه عبر الغابة الضخمة بتعدد ألوانها التي تتألق من بين شلالات نور مشوّبة بالدخان، غير مكترثة لأي شيء أو أي حاجز يعيق حركتها، إلى أن وصلت إلى مصبّ الغدير، فرأت رجلاً أمسك بيده يختها الهارب وأخذ يتأمله ـ لقد كان الرحالة إيغل ولكن الفتاة لم يسبق لها أن رأته ـ قالت له بارتباك : والآن أعطني اليخت ، كيف أمسكت به؟
رفع الرجل رأسه وتأملها وأخبرها أن لا تخاف منه وقال لها بأنه كان في قرية يظنها قريتها ولكنّه اكتشف أنّ أهلها لا يغنّون الأغاني ولا يملكون القصص الممتعة وقال: لا أعرف كم سيمضي من الوقت لكي تنتشر في قريتكم" كابيرنا" قصة سيتردّد صداها أعواماً فأخبرها بأنها ذات صباح ستكبر وترى شراعاً أحمر يتألق تحت أشعة الشمس في عمق البحر وستتوجه نحوها سفينة بيضاء بأشرعة حمراء، عندما تكون واقفة مع حشد من الناس على الشاطئ وسترى أميراً شجاعاً جميلاً يأتي ليصطحبها معه إلى مملكته ، ولن تعرف روحها الحزن ولا الدموع .
وعندما أنهى كلامه أكّد بأنها ستكبر أوّلاً وأوصاها بأن لا تنسى بين عشيّة وضحاها ما قاله لها .
بعد ذلك أسرعت الفتاة إلى أبيها وأخبرته عمّا مرّ معها فخاطبها قائلاً: ذات يوم ستكبرين وتنسين، الآن لا داعي لأن أحرمك هذه التسلية مادمت سترين بدلاً من الأشرعة الحمراء أشرعة قذرة يُخيّل لك بأنها أنيقة، لكنك سترينها ممزقة... وقحة...
ـ وبعد مضيّ سبعة أعوام عادت الفتاة إلى أبيها من إحدى رحلاتها إلى المدينة مضطربة قلِقة، فقد فشلت تجارتهم البسيطة ولم يعد أحد يشتري من مثل مصنوعاتهم، وقرر والدها أن يعود للعمل على متن إحدى السفن، ولكنّه كيف سيترك طفلته لمدة رحلة بحرية كاملة؟ لم يكن يستطيع اتخاذ القرار المناسب أو حسم أمره .
وبعد هذه الحادثة أصبحت أسّول تمضي إلى شاطئ البحر كلّما أصابها الأرق ، تنتظر مجيء السفينة ذات الأشرعة الحمراء، وفي ذات يوم بينما كانت أسّول في غمرة من الأحلام والأفكار غادرت منزلها الصغير تشقّ طريقها بين الأشجار والأعشاب إلى أن وصلت إلى جرف يطلّ على البحر، وفجأة انبثقت سفينة بدت واضحة كالغيوم كانت تتجه نحوها، فوقفت وضمت يديها إلى صدرها ثم تنهّدت وتلفّتت حولها، كانت الموسيقا قد صمتت ولكنّها كانت ماتزال تحت تأثير لحنها ثم أخذ هذا الانطباع يضعف شيئاً فشيئاً حتى غدا مجرّد ذكرى، واستلقت الفتاة على العشب فتثاءبت وأغمضت عينيها بهناء، وغطّت في نوم حقيقي عميق بلا هموم ولا أحلام .